البساطة لا تعني التقشف ولا الاحباط
تعرّفت أرميل، التي باتت في أوائل الثلاثينات من عمرها ولديها ثلاثة أطفال، على الرزانة بفضل الكشافة. اختارت وزوجها العيش في الريف للتواصل ببساطة ولتربية أطفالهما في الطبيعة، وهي تشتري ملابسًا مستعملة للعائلة. “نشارك مع الجيران الخضار والفاكهة التي تنمو في الحديقة. لا نملك تلفازًا، ما يسمح لنا بقضاء أمسيات عائلية أو ثقافية. ونقوم بإصلاح أجهزتنا كي تدوم لفترة أطول، ونقضي إجازاتنا في الجبال دائمًا، أي بالقرب من المنزل. إنه خيارنا”. تستند معركتها ضد الهدر على كافة الأصعدة: تصنيف السلوكيات ووضع قائمة للتسوق مسبقًا لتجنب الشراء الالزامي. وخصصت أرميل مع أصدقائها “أيامًا للتبرع”، إذ تضع كل الأشياء غير الضرورية في الحديقة، فيتمكن الجميع من أخذها مجانًا. “بفضل ذلك، أتحرر وأركّز على الأساسيات مثل الحب والخدمة، ناهيك عن الفرح الذي أشعر به”.
إن البساطة لا تعني التقشف ولا الاحباط، بل “اختيار الزهد، وهو حالة ذهنية تكمن في تذوق الوجود أكثر من التملّك”، كما تؤكد الدكتورة إيزابيل، وهي من أتباع مبدأ البساطة. لا يتعلق الأمر بتشجيع الفقر من أجل الفقر نفسه، بل بالابتعاد عن الماديات التي جعلنا الله أسيادها. ويقول القس البروتستانتي سيريل كور: “إن العيش ببساطة يعني فرض قيود على الذات؛ ويتعلق الأمر بالتخلي عن الفائض والاكتفاء بالأساسيات”. إذًا إن التخلي والاكتفاء هما أساس البساطة التي لا تخلو من الألم ولا من السعادة، وفقًا للأشخاص الذين يعيشونها.لكن من أين تأتي هذه الدعوة؟ تتنوع الإجابات على هذا السؤال، إذ اختار البعض حماية الكوكب والامتناع عن استخدام كل ما يسبب زيادة نسبة ثاني أكسيد الكربون. ويتقرّب آخرون من الحكماء القدامى ليعثروا على السلام وميزة الوجود، بعيدًا عن مشاكل العالم. أما من المنظور المسيحي، فتسعى البساطة إلى إفساح المجال لمحبة الله والآخرين والذات. إن المسيحيين مدعوون إلى البغض، بحسب القديس لوقا (14:26). سيبيع البعض كل ما يملك ليتبع المسيح؛ والبعض الآخر سيتقاسم خيراته أو يقدّم وقته أو مواهبه.
الدخول في عملية التبسيط
إن الخطوة الأولى لتبسيط حياتنا هي إدراك أن الرفاه يحتكر أفكارنا ويبعدنا عن الله. في مجتمعنا الذي يتوفر فيه كل شيء، إن التحرر من الحوافز المستمرة للاستهلاك يُعتبر مقاومة. يقول بيير: “يستند مجتمعنا على الاحباط المبرمج”. ويتطلب الدخول في عملية التبسيط طرح بعض الأسئلة الأساسية على الذات، مثل: ما هي قيمة الأشياء؟ ويتساءل بيير قبل شراء أي سلعة: من يستطيع تحمل كلفتها؟ وهل هي حقًا مفيدة؟
يقول بيير المهندس والأب إن كلمات القديس يوحنا الذهبي الفم تطارده: “إن الخبز الذي تحتفظ به يخص الجائع؛ والملابس التي تحتفظ بها في خزنتك تعود إلى العريان”. تؤثر هذه العبارة على أسلوبنا في إعداد العشاء للزائرين أو حفل الزفاف أو أي احتفال آخر، من خلال تجنّب المبالغة والتبذير غير اللائق الذي يرضي الغرور ولكنه يمكن أن يفضح ويؤذي البعض. يمكننا أن نستقبل الناس ببساطة.تساءلت آن عن “ممتلكاتها الخصبة والعقيمة منها”: “من الممكن أن تكون شقتي أكثر انفتاحًا على الآخرين. فاضطررت إلى توفير بعض المساحة عبر فرز الأغراض وأدركت أنني كنت أكدّسها خوفًا من نفادها”.
التحرر من استبداد المجتمع
تكمن الخطوة الثانية في تحرير الذات من ضغوطات المجتمع واستبداده المهني والاجتماعي، إذ يجب أن نعمل أكثر لكسب المزيد، وأن نزيد من نشاطاتنا الترفيهية، وأن نظهر في الأفق، وأن نركز على تطوير الذات، أي يجب أن نقوم بكل ما نمارسه غالبًا على حساب محيطنا وسلامنا الداخلي. فهل نحن أحرار بالنسبة إلى النموذج الاجتماعي وفي نظر الآخرين؟ تدريجيًا، تؤدّي بنا فكرة البساطة إلى مراجعة أولوياتها. قرر بيير العمل بنسبة 85٪ من الوقت تضامنًا مع العاطلين عن العمل. وبالتالي، يمكنه مساعدة الجمعيات والتنزه لمسافات طويلة في الجبال. أما صوفي البالغة من العمر 45 عامًا، فقد استقالت من عملها كباحثة لتكون “قسيسًا” في مستشفى ولتعمل كمضيفة في منزل مخصص للباحثين عن عمل. وتوقفت إيزابيل عن العمل في مكتبها لمدة عشر سنوات كي تربّي أطفالها بهدوء وتشارك في الحياة المجتمعية لقريتها. وبالنسبة إلى ستيفان وماري، فهما يرفضان “النزهات الفاخرة التي يشعران خلالها بأنهما يهدران وقتهما”، ويفضلان تناول العشاء مع أصدقائهما.يتميز وقت الفراغ أيضًا بكونه متاحًا للعائلة وللالتزامات غير الأنانية وللصداقات الحقيقية.
ترك فراغ بسيط في أنفسنا لتوفير مساحة أكبر لله
تكمن الخطوة النهائية في التحرر من ذواتنا. فكلما كبرت المساحة المتوفرة فينا، زادت المساحة التي يمكن أن يشغلها الله إذا كنا على استعداد للتخلي عن ذواتنا. إن قلوبنا معقدة؛ ألا نشعر أحيانًا بأننا مصابين بالفصام ومشتتين بين تطلعاتنا العميقة وتجاوزات حبنا لذواتنا؟ “إن حياتنا مشتتة في عدة اتجاهات، لذا فهي تصبح أكثر تعقيدًا وتفقد شفافيتها، ويتضخّم القلب والشفتان، وتضطرب النظرات وتتضاعف الأقنعة”؛ بحسب ما كتب الأخ فيليب الكرملي في مراجعة الكرمل عن البساطة، المعنوَنة بـ”Vives Flammes” رقم 257.
مع صورة زنابق الحقل، يدعونا الرب إلى التخلي عن القلق والاهتمام بملكوته فقط؛ من الضروري التخلي عن الشخصيات التي صنعناها لأنفسنا. قال الأب موليني: “يعني ذلك قبول خسارة الأرض، وهو حدث مخيف، لكننا سنعتاد عليه بشكل أفضل كلما كنا أكثر مرونة”. هذا هو مسار الطفولة الروحية الذي أشار إليه يسوع: “عِش كطفل، غير مهتم لذاتك ومليئًا بالثقة”، وفقًا للأخ هنري الكرملي. عادة، لا يخاف الطفل بل يندهش: “عندما نعيش في الرخاء وفي السباقات، نصبح عميانًا ولا نستطيع رؤية الهدايا التي يمنحنا إياها الله باستمرار. يسعدني أن أرى الشمس تشرق؛ وفي الريف، أجد الثناء من جديد ويهدأ قلبي”، كما تقول إيزابيل. كلما كنا أبسط، اقتربنا من الله أكثر. لكن العكس صحيح أيضًا: “كلما اقتربنا من الله، أصبحنا بسطاء أكثر”، كما قالت الأم فيبروني للقديسة تيريزا الطفل يسوع. وكلما اقتربنا من الله، وجدنا ذواتنا أيضًا، لأن النفس تخرج من ثنايا الخطيئة وتظهر في حقيقتها. إن البساطة هي مصطلح وهدف لرحلتنا؛ ويختتم الأخ هنري قائلًا: “إنها موجودة أمامنا في أحضان الآب الذي ينتظرنا، وهي هبة من الله تحوِّلنا وتتجاوز تعقيداتنا، لأنها العلاج لها”.